في واحد من أرقى مطاعم العاصمة ، جلس السيد “سامر” يتناول الغذاء برفقة الآنسة “زينة”.
وقد بدى هو حزيناً وهي قلقة .
” أشكرك لأنك قبلت دعوتي. ” قال لها : أنا في حاجة ماسة الآن إلى رفيق .. يسمعني .. وينصت إلي .
ورغم أنها لم تكن مرتاحة لما فعلته إلا أنها أومأت برأسها وابتسمت قائلة :
أفهم صعوبة المرحلة التي تمر بها يا سيدي لكني واثقة أنك سوف تتجاوزها ..
” أخبريني آنستي ..” قال لها : هل تعتبريني رجلاً قوياً ؟ ارتبكت وهي تجيب : نعم .. الواقع أنك توحي بالصلابة والجدية .
” هذا ما يظنه الجميع ..” قال ” سامر ” : لكن الحقيقية هي أني أشعر بالضعف يتأكلني ويفتتني .. أشعر بأني قد أسقط في أية لحظة .
– إنه وهم !
– أتظنين ؟
– أجل .
وأضافت : جميعنا يشعر بهذه الحالة في بعض الأحيان .
سألها من فوره : وهل شعرت بها ؟
– مرات عدة .
سألها مجدداً : متى ؟
” مثلاً .. عندما توفي والدي .. كان الأمر فظيعاً بالنسبة لي .. وراودني الشعور الذي تقصده .. الضعف .. وكأنك قشة في مهب الرياح … ” قالت متألمة : مجرد تذكر الأمر يصيبني بالاضطراب.
” أنا آسف ..” قال بلطف غريب : أنت يتيمة الأب إذاً ؟؟ !! إنه وضع صعب .. ولقد عانيت منه … فلقد فقدت والدتي .. ثم والدي .. وأقدر حجم الألم الذي يعنيه فقدان أحدهما .
وشعرت الفتاة بمزيد من الشفقة على هذا الإنسان المحطم أمامها لكنها لم تقل شيئاً .
ووصل الطعام ، فباشرت بتناوله بصمت وهي تختلس النظرات إلى سيدها .
هذا الأخير الذي بدى منشغلاً بتأمل اشعة الشمس الساطعة في هذا اليوم .
ولم يتناول لقمة واحدة .
ثم قال بعد قليل : ليتني كنت هناك ؟!
فرفعت إليه رأسها وسألته : أين ؟
” في السماء ..” أجابها بنبرة حريرية الملمس : ليتني كنت سحابة أو نجمة أو حتى قوس قزح.
فابتسمت وقالت : إنه قول شاعر .
” أولا يصنع الألم الشعراء؟ ” يسألها فلم تجب لأنها لم تبدو متفقة معه فهي عاشت آلاماً لا تحصى ولا تزال ومع هذا لم تغدو شاعرة.
وقالت له مستغربة : ولماذا تريد أن تكون في السماء ألا تعجبك حياة الأرض ؟
ووجدت نفسها مجبرة على القول : صحيح أن حياتنا تشوبها الأحزان لكنها تبقى مليئة باللحظات الجميلة والسعيدة .
” ربما أنت على حق ” قال متنهداً : وربما كانت هذه اللحظات من الأوقات الجميلة التي تتكلمين عنها .
تفاجأت بإطرائه ، لكنها لم تبد شيئاً حياله ، بل سارعت لتقول : سيدي .. ألن تأكل ؟!
فحمل الملعقة وقال : بلى .
وابتلع لقمة يتيمة مثلها تماماً قبل أن يقول مستطرداً : وكيف تجدين العمل في المؤسسة ؟
فابتسمت قائلة : جيد إنه عمل ممتع .
” لست مضطرة إلى قول هذا ” قال لها : فأنا أعلم تماماً أنه عمل روتيني مزعج وممل.
فقالت تسايره : ليس إلى هذه الدرجة .
” على أي حال سيكون هناك ما يخفف من حدة ضجرك ” قال عبارته فلم تفهمها : أعني أن لدينا رحلة عمل بعد أيام .
فتركت طعامها ، وسألته بدهشة : لم أفهم . أتقصد أننا سنسافر للخارج ؟!
” أجل إلى فرنسا ..” أجابها بهدوء : لدي عدد من الصفقات العالقة هناك وسأذهب لإتمامها . وطبعاً بصفتك أمينة السر الخاصة بي فستقومين بمرافقتي .
وأعرضت الفتاة عن الطعام وقد أزعجها النبأ ، في حين أقبل “سامر” على طبقه وكأنه قد أنهى كل ما أراد قوله ، واختتم دوره.
وترددت “زينة” قبل أن تقول : لكن .. سيد “سامر” .. أنا لم أفكر بمسألة السفر هذه .. لقد تفاجأت بالأمر ..
” لكن ذلك يدخل في مهامك الوظيفية ” قال لها مجادلاً : إنه عمل وأنا أحتاجك فيه ..
فتضاعف إضطرابها وعادت تكرر : لكن .. أنا .. لم أعلم أنك ستطلب مني ذلك ..
فردّ مجيباً : وأنا لم أكن أعلم أنك سوف تمانعين .. آنسة “زينة” إنه عملك.
“أجل” قال هي تهز رأسها بطريقة ذكية : إنه عملي .
واستأذنته لدخول الحمام ، وهناك وقفت وحيدة أمام المرآة تتأمل نفسها .. وتذرف الدموع !
يتبع